الإخوة الأعضاء الكرام : الرجاء في حال وضع صور في المنتدى أن يكون رفعها على مركز الرفع الخاص بالمنتدى وهو موجود في صندوق الموضوع المطور أو ضمن الإعلانات النصية الموجودة أسفل المنتدى ، لأن ذلك يسهم في سرعة المنتدى وأدائه ، وشكراً لكم على كرم تعاونكم || كن بلا حدود ولا تكن بلا قيود .|| إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا . || قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك . || الإرهاب .. لا دين له || |





أطلال اللغة والأدب العربي . يختص بكل ما له شأن بالأدب العربي بجميع أقسامه وفروعه من لغة وأدب وبلاغة وفصاحة وبيان ومحسنات بديعية وغيرها من الفنون الأخرى مما يندرج تحت تصنيف ( الأدب )

الإهداءات

رحلة مع أديب .

كل يوم سيكون لنا رحلة ممتعة مع أديب من فحول الأدب العربي قديماً وحديثاً ، نجوب من خلالها حدائقه الأدبية الغناء ، ونقتطف من ثمارها ونتذوق كل معاني الأدب والإبداع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 08-19-2010

مطلع الشمس غير متواجد حالياً
Saudi Arabia     Male
قـائـمـة الأوسـمـة
الإبداع

وسام

الحضور الدائم

كاتب شامخ

لوني المفضل Darkgreen
 رقم العضوية : 7
 تاريخ التسجيل : May 2010
 فترة الأقامة : 5297 يوم
 أخر زيارة : منذ 5 يوم (10:58 AM)
 الإقامة : جدة
 المشاركات : 6,043 [ + ]
 التقييم : 63
 معدل التقييم : مطلع الشمس will become famous soon enough
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي رحلة مع أديب .



كل يوم سيكون لنا رحلة ممتعة مع أديب من فحول الأدب العربي قديماً وحديثاً ، نجوب من خلالها حدائقه الأدبية الغناء ، ونقتطف من ثمارها ونتذوق كل معاني الأدب والإبداع والثقافة والتراث ، ونتجول في حياتهم الأدبية الجميلة ونستمتع بما قدموه لنا من علم في مجالات شتى .
وأديبنا لهذا اليوم هو : أتمنى أن تقضوا معه رحلة ممتعة وشيقة : أترككم معه الآن سيروا على بركة الله .

مصطفى صادق الرافعي في سطور
مصطفى صادق الرافعي: 1298-1356هـ/ 1881-1937م
هو مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي. ولد في "بهتيم" بمصر سنة 1881م من أب طرابلسي1 الأصل وأم حلبية. وأخذ علوم الدين عن أبيه، ثم دخل المدرسة الابتدائية وهو في نحو الثانية عشرة من عمره؛ وقد أصيب بالصمم وهو في الثلاثين من عمره, فكان يُكتب له ما يراد مخاطبته به. وفي سنة 1899 عين كاتبًا في محكمة "طلخا" الابتدائية، ثم نُقل إلى محكمة "إيتاي البارود" الشرعية، ثم إلى طنطا حيث نُقل إلى المحكمة الأهلية وتوفي سنة 1937م.
خصّ الرافعي قسمًا كبيرًا من مقالاته للدفاع عن الإسلام ومصر والشرق. وكانت نزعته في كتاباته نزعة إسلامية شديدة فيها من التدين والاندفاع الشيء الكثير, وكان غزير الفكر، يملي عليه العقل والتدين كثيرًا من الحكم والمواعظ الخلقية ويوجهانه في كتاباته توجيهًا اجتماعيًّا.
شعره نقي الديباجة على جفاف في أكثره, ونثره من الطراز الأول، إلا أنه لا يخلو من بعض الغموض. أما قصصه ففيه طرافة؛ ولكن فيه أيضًا بعض الثقل والضعف الفني.
مؤلفاته:
- ديوان شعر، في ثلاثة أجزاء.
- تاريخ آداب العرب، ثلاثة أجزاء.
- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.
- تحت راية القرآن.
- رسائل الأحزان.
- على السَّفُّود؛ وهو رد على العقاد.
وحي القلم، ثلاثة أجزاء.
- ديوان النظرات.
- السحاب الأحمر، في فلسفة الحب والجمال.
- حديث القمر.
- المعركة؛ في الرد على كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي.
- المساكين.
- أوراق الورد.
وقد ألف محمد سعيد العريان كتابًا عن حياة الرافعي. ولمحمود أبي رية "رسائل الرافعي" وهي رسائل خاصة مما كان يبعث به إليه، اشتملت على كثير من آرائه في الأدب والسياسة ورجالهما.
نص كتاب الأستاذ الإمام:
ولدنا الأديب الفاضل مصطفى أفندي صادق الرافعي, زاده الله أدبًا.
ما أثمر أدبك، ولله ما ضمِن لي قلبك، لا أقارضك ثناء بثناء، فليس ذلك شأن الآباء مع الأبناء، ولكني أعدك من خُلَّص الأولياء، وأقدم صفك على صف الأقرباء. وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل، وأن يُقيمك في الأواخر مقام حَسَّان في الأوائل, والسلام.
5 شوال سنة 1321*محمد عبده



أما والد "الرافعي" الشيخ "عبد الرزاق سعيد الرافعي"، فكان رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم المصرية، وقد استقر به المقام رئيسًا لمحكمة طنطا الشرعية، وهناك كانت إقامته حتى وفاته، وفيها درج "مصطفى صادق" وإخوته لا يعرفون غيرها، ولا يبغون عنها حولاً.

أما والدته فهي من أسرة الطوخي، وتُدعى "أسماء"، وأصلها من حلب.. سكن أبوها الشيخ "الطوخي" في مصر قبل أن يتصل نسبهم بآل الرافعي، وهي أسرة اشتهر أفرادها بالاشتغال بالتجارة وضروبها، وإلى هذه الأسرة المورقة الفروع ينتمي "مصطفى صادق"، وفي فنائها درج، وعلى الثقافة السائدة لأسرة أهل العلم نشأ؛ فاستمع من أبيه أول ما استمع إلى تعاليم الدين، وجمع القرآن حفظًا وهو دون العاشرة، فلم يدخل المدرسة إلا بعدما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية وسنه يومئذٍ 17 عامًا أصابه مرض (التيفوئيد) فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرًا ووقرًا في أذنيه لم يزل يعاني منه حتى فقد حاسة السمع وهو لم يجاوز الثلاثين بعد، وكانت بوادر هذه العلة هي التي صرفته عن إتمام تعليمه بعد الابتدائية، فانقطع إلى مدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه؛ فكان هو المعلم والتلميذ، فأكبَّ على مكتبة والده الحافلة التي تجمع نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فاستوعبها وراح يطلب المزيد، وكانت علته سببًا باعد بينه وبين مخالطة الناس، فكانت مكتبته هي دنياه التي يعيشها وناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحبته وخلانه وسُمّاره، وقد ظل على دأبه في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم في عمره، يقرأ كل يوم 8 ساعات لا يكل ولا يمل كأنه في التعليم شادٍ لا يرى أنه وصل إلى غاية.


عاش الرجل في فترة زمنية ارتفعت فيها دعاوى التجديد، ومحاولة سلخ الأمة عن هويتها، فآلى على نفسه أن يجعل من قلمه سلاحًا يذود به عن هذه اللغة، وحَربة يحمي بها حياضها؛ من أجل أن يهزم اللسان العربي هذه العُجمة المستعربة، وأن يُعيد إلى لغة القرآن مكانتها المرموقة.


حياة الرافعي الأدبية :

بدأ "الرافعي" حياته الأدبية شاعرًا، وكان لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وأخذ ينشر شعره ومقالاته في المجلات التي كانت تصدر آنذاك، وقد أخرج الجزء الأول من ديوانه سنة 1900م، ثم تلاه الجزآن الثاني والثالث، ومن هنا دخل "الرافعي" إلى مجال الشهرة الأدبية؛ إذ تبنى نشر شعره الشيخ "ناصيف البازجي" في مجلة (الضياء) سنة 1903م.

ثم أخرج "الرافعي" بعد ذلك ديوان (النظرات) سنة 1908م، ثم كتب في تاريخ آداب العرب وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأضاف إلى العربية فنًا جديدًا من فنون النثر لم يسبقه إليه أحد، وهو فن الرسالة الأدبية وذلك من خلال كتبه الثلاثة "رسائل الأحزان" و"السحاب الأحمر" و"أوراق الورد"، ومن الإنتاج المتميز للرافعي كتاباه: "تحت راية القرآن"، و"وحي القلم"

الحياة الثقافية لمصطفى صادق الرافعي :
على الرغم من أن "الرافعي" درس اللغة الفرنسية في المدرسة الابتدائية إلا أنها لم تجد عليه إلا قليلاً، بل أخذ "الرافعي" ينمي ثقافته بعصاميته كما ذكرنا سابقًا، وقد وضع كتب التراث أساسًا ومحورًا لها بالإضافة إلى بعض القراءات المترجمة، لكن ظل التراث نبعًا ثريًّا ينهل منه حتى إنه استطاع بفضل الله أن يكتب "تاريخ آداب العرب" من وحي ذاكرته التي جمع فيها شتات قراءاته.

وهكذا وصل "الرافعي" بعمق ثقافته في التراث إلى أن يكتب كتابًا من ذاكرته، يقع في ثلاثة مجلدات، وما هو إلا توفيق الله له؛ أعانه على أن يبعث أروع الأدب في هذه الأمة من جديد.

ويتضح هذا من خلال قوله لأحدهم: "وما أرى أحدًا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكمًا نافذًا بالأشغال الشاقة الأدبية، كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية، فاحكم على نفسك بالأشغال الشاقة سنتين أو ثلاثًا في سجن الجاحظ أو أدب أبي العلاء المعرى أو غيرهما".

ومن هنا نلمس كيف كان "الرافعي" حريصًا على أن تكون كتب التراث في مقدمة ثقافة الدارسين للغة والآداب؛ حتى يرتكز الأديب على ركن أصيل وتراث زاخر يحميه من كل الأفكار الوافدة التي قد تعصف به وتجعل منه لسانًا للعجمة، كما حدث مع الكثرة ممن انسلخوا من تراثهم وحاولوا أن ينالوا من هذه اللغة ومن أصالتها، وقد وقف "الرفعي" لأصحاب هذه الدعوات بالمرصاد، وقامت بينه وبينهم معارك أدبية، خاضها "الرافعي" مدافعًا عن العربية والإسلام دفاع المستميت.

أهم الملامح الأدبية عند الرافعي :
أولاً: الأصالة الإسلامية:
من أولى السمات وأبرزها وأوضحها في آداب "الرافعي" السمة الإسلامية، وهي تتضح منذ نشأته وحتى مماته.. فبيته الذي نشأ فيه غرس فيه الروح الإسلامية، وظل ناشئًا معها محاطًا بها في كل أطوار حياته، ونرى السمة الإسلامية في نقده وثقافته، وفي إبداعه؛ وهو ما يدل على أنه كان يبغي وجه ربه في كتاباته، ومن هنا علَّق على نشيده "ربنا إياك ندعو" فقال: إني أعلق أملاً كبيرًا على غرس هذه المعاني في نفوس النشء المسلم، فالرجل لم يكتب لشهرة ولا لمال ولا لمنصب؛ وإنما كان الإسلام هو دافعه وموجهه.

ثانياً : أصالة المعاني والألفاظ :
إن من يقرأ أدب "الرافعي" ويتمعن في سمو معانيه ودقة ألفاظه يقول: إن هذا الرجل لم يعشْ في القرن العشرين؛ وإنما عاش معاصرًا للجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان، والدليل على ذلك أنه ما وُجد أديب معاصر له قارب أسلوبه أو لغته أو فنه، وكان هذا دافعًا لوجود أعداء كثيرين له، بل لقد عاداه الكثير من أدباء عصره حيًّا وميتًا، ولم يذهب واحد من خصومه معزيًا أهله في وفاته، إلا رجل واحد كتب برقية إلى ولده؛ هو الدكتور "طه حسين".

ثالثاً : قوي في الحق :
القوة في الحق سمة بارزة في أدب "الرافعي" وفي كتاباته، فبرغم أن "العقاد" قال عنه يومًا: "إنه ليتفتق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما يتفتق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها"، إلا أن هذا لم يُغفر للعقاد أن يتناوله "الرافعي" بنقد شديد فيما بعد؛ حرصًا منه على فكرته، كما أننا لم نجد في كتاباته مداهنة لأحد ولا خوفًا من أحد، لقد كان العقاد كاتب الوفد الأول، إلا أن "الرافعي" لم يهبه، وكان "عبدالله عفيفي" شاعر الملك، إلا أنه لم يسلم من قلم "الرافعي"، هذه أبرز سمة في أدب "الرافعي" وهي تكفيه.

النقد عند الرافعي :

كانت بدايات النقد عند "الرافعي" بعض المقالات التي كان ينشرها في المجلات والجرائد التي كانت تنتشر في عصره، ومن أشهرها: مقال نشره في الجريدة، يحمل فيه على الجامعة وأساتذتها ومنهج الأدب فيها.

ومن أبرز نقده :
من أبرز نقده (تحت راية القران) و(على السفود)، وقد انتقد "طه حسين" ومنهجه كتاب (الشعر الجاهلي) في كتابه الأول، بينما انتقد العقاد في كتابه الثاني.

@ . كان "الرافعي" ينتقد المعاني والألفاظ من ناحية مستوى تأليفها والابتكار فيها، وينقد التكرار القبيح في الألفاظ والمعاني، كما كان ينقد اضطراب القوافي وثقل الألفاظ.

@ . كان "الرافعي" عنيفًا على "طه حسين"، كما كان عنيفًا على "العقاد"، وأخذ عليه بعض العبارات القاسية التي كتبها للعقاد في كتابه (على السفود)، التي كان من الأولى أن يسمو قلم "الرافعي" عنها وعن الخوض فيها، ولنقترب أكثر من منهجه في النقد ونقول: كانت للرافعي غيرة واعتداد بالنفس عُرفت من خلال نقده اللاذع، وكان فيه حرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، وكان يؤمن بذلك، فكان بذلك ناقدًا حاد اللسان يغار على أدبه منها كما يغار على عرضه، فكان يضرب كل مَن تطاول عليه، ولا يخشى في الله لومه لائم".

فهو يقول في مقدمة كتابه (تحت راية القرآن)- مبينًا منهجه-: "إننا في هذا الكتاب نعمل على إسقاط فكرة خطرة، وإذ هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدًا فيمن لا نعرفه ونحن نرد على هذا".

أن النقد عند "الرافعي" افترض أصالة الفكرة واللغة عن المبدع والسير حسب الأصول النقدية الصحيحة التي تزرع القاريء عند النقد.. والرافعي في كل هذا إنما ينقد من خلال السمة الإسلامية التي تسيطر عليه.
حروب الرافعي الأدبية :
لقد عاش "الرافعي" في عصر كثر فيه أدعياء التجديد ونبذ القديم، بل وقف الرافعي وحده في الميدان مدافعًا، لا يستند إلا على ربه، وما وهبه من علم، فكان يبارز الكثير منهم في ساحة الصحف والمجلات والمطبوعات برغم أنه كان يعيش في (طنطا) بعيدًا عن أضواء الصحافة والمجلات الكثيرة التي كان يسيطر عليها أمثال هؤلاء، فكان يعتمد على مرتبه البسيط الذي كان يتقاضاه من المحكمة الأهلية، التي كان يعمل بها؛ لذلك نجده لم ينافق ولم يراءِ في معاركه، لأن ضميره ودينه يفرضان عليه خوض هذه المعارك.

ومن هنا كانت الحروب التي خاضها "الرافعي" مع "طه حسين" و"العقاد"، و"سلامة موسى" و"زكي مبارك" و"عبد الله عفيفي"، وإن كانت معاركه مع العقاد أشهر هذه المعارك، إلا أن معظمها كانت من منطلق إيمانه بمنهجه وطريقته في الإبداع والنقد، والاحتماء بالتراث العربي الأصيل.. كما أسس الرافعي بتلك المعارك منهجه النقدي من خلال أبرز كتبه، وهي: (تحت راية القرآن)، و(على السفور).

أما أبرز معارك الرافعي العلمية، التي يتعين الإشارة إليها بشيء من التفصيل بعد أن أهال عليها الزمن تراب النسيان، بل إن الكثيرين اليوم لا يحيطون بتفاصيلها.. وبخاصة ما كان بينه وبين كل من الأديبين الراحلين الدكتور "طه حسين" والأستاذ "عباس محمود العقاد" على التوالي.

معركة "الرافعي" مع "طه حسين":
بدأت المعركة حينما أصدر الرافعي كتابه (تاريخ آداب العرب)، وانتقده "طه حسين"، الذي كان لا يزال طالب علم في ذلك الحين في عام 1912م بمقال نشره بالجريدة، مبديًا أنه لم يفهم من هذا الكتاب حرفًا واحدًا.

وأسرها الرافعي في نفسه، وإن كان "طه حسين" قد عاد بعد ذلك عام 1926م فقال عن ذات الكتاب: إن "الرافعي" قد فطن في كتابه لما يمكن أن يكون عليه تأثير القصص وانتحال الشعر عند القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة"!

وبدأت المعركة في الاحتدام حينما أصدر الرافعي كتابه (رسائل الأحزان) واستقبله "طه حسين" بتقديم شديد، انتهى فيه للقول: "إن كل جملة من هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورًا مؤلمًا"!
ورد عليه "الرافعي" بجريدة "السياسي "ساخرًا بقوله: "لقد كتبت رسائل الأحزان في ستة وعشرين يومًا، فاكتب أنت مثلها في ستة وعشرين شهرًا، وأنت فارغ لهذا العمل، وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تدع لي من النشاط ولا من الوقت إلا قليلاً .. هأنذا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها".

واشتدت المعركة وزادت عنفًا حينما أصدر الدكتور "طه حسين" كتابه "الشعر الجاهلي"، وأحدث الضجة المعروفة، وانبرى "الرافعي" يندد بما جاء بهذا الكتاب وفنده فصلاً فصلاً، حتى اجتمع له من ذلك كله كتاب أطلق عليه عنوان (تحت راية القرآن)، الذي كان حديث الناس في تلك الفترة (عام 1926م).

معركة الرافعي مع العقاد:
بدأت حينما اتهم "العقادُ" "الرافعي"َّ بأنه واضع رسالة الزعيم "سعد زغلول" في تقريظ كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) بقوله إن قول "سعد زغلول" عن الكتاب إنه (تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم) ليروج الكتاب بين القراء .. هذه العبارة من اختراع الرافعي وليست من يراع الزعيم "سعد زغلول"!

ويدافع الرافعي عن هذا الاتهام بقوله للمرحوم محمد سعيد العريان: "وهل تظن أن قوة في الأرض تستطيع أن تسخر سعدًا لقبول ما قال، لولا أن هذا اعتقاده".

وأرجع "الرافعي" السبب في اتهام "العقاد" له إلى أن العقاد كان هو كاتب الوفد الأول، وأن سعدًا كان قد أطلق عليه لقب (جبار القلم)، ولا يقبل "العقاد" منافسًا له في حب "سعد" وإيثاره له.

وقد أخذت المعركة طابعها العنيف حينما شن "العقاد" حملة شعواء عليه في كتابه (الديوان) سنة 1921م، وتناول العقاد فيه أدب "الرافعي" بحملة شعواء جرده فيها من كل ميزة .. وشمر "الرافعي" عن ساعده على إثرها وتناول العقاد بسلسلة من المقالات تحت عنوان (على السفود) بأسلوب حاد كان أقرب إلى الهجاء منه إلى النقد الموضوعي الجاد.. والسفود في اللغة هو الحديدة التى يُشوى بها اللحم، ويسميها العامة السيخ كما يقول "الرافعي" في شرح العنوان.

وبعد أن هدات الخصومة بينهما بسنوات نشر المرحوم "الزيات" صاحب "الرسالة" رأي "الرافعي" الحقيقي في العقاد الذي يشتمل على استنكار الرافعي نفسه للأسلوب الناري الذي اتبعه وفاءً إلى التسامح بعد بضعة عشر عامًا من خمود المعركة على حد تعبير الأستاذ كمال النجمي.

فقد قال "الزيات" للرافعي وهو يحاوره: ياصاحب (تاريخ آداب العرب) .. هل تستطيع أن تجرد نفسك من ملابسات الخصومة وتجمل لنا رأيك الخالص في العقاد"؟
فأجاب الرافعي: "أقول الحق، أمَّا العقاد أحترمه وأكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره، ولعله أعلم الناس بمكاني في الأدب .. وأحترمه لأنه أديب قد استمسك آداة الأدب وباحث قد استكمل عدة البحث فصَّير عمره على القراءة والكتابة فلا ينفك كتاب وقلم".

حينما اطلع "العقاد" في الرسالة على ما تقدم من رأي "الرافعي"، وفي أدبه رد على ذلك بعد رحيل "الرافعي" عن عالمنا بثلاث سنوات بقوله: "إني كتبت عن "الرافعي" مرات أن له أسلوبًا جزلاً، وأن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين".

أما المعركة الثالثة في الأهمية فهي تلك التي قال فيها بعضهم: إن كلام العرب في باب (الحكم) أن عبارة (القتل أنفي للقتل) أبلغ من الآية القرآنية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 179)؛ إذ لم ينم "الرافعي" ليلته، بعد أن لفت الأستاذ الكبير "محمود محمد شاكر" برسالة بتوقيع م.م.ش نظره إلى هذا الأمر بقوله: "ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا، لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها"؟
واستطاع الرافعي ببلاغته أن يقوض هذا الزعم من أساسه بمقالاته: (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة)، التي عدَّد فيها وجوه الإعجاز في الآية الكريمة: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 179).


الرحلة الأولى في كتاب ( اليمامتان )



جاء في تاريخ الواقدي "أن "المقوقس" عظيم القبط في مصر، زوج بنته "أرمانوسة" من "قسطنطين بن هرقل" وجهزها بأموالها حشمًا لتسير إليه، حتى يبني عليها في مدينة قيسارية1؛ فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها... وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارًا شديدًا، وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع ما لها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس. فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسير إليه ابنته مكرمة في جميع ما لها، "مع قيس بن أبي العاص السهمي"؛ فسُرَّ بقدومها...".

هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيًّا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصه نحن:

كانت لأرمانوسة وصيفة مولدة تسمى "مارية"، ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريا، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه؛ فهو أجمل منهما، ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تخمل شيئًا في جمال نسائها أو تشعث منه، وقد لا توفيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمال ينزع إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرها إفراغًا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه في طابعه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى.
وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليًا وبطريركًا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تدافع إلا بمقدار ما تدفع، تقاتل شيئًا من القتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مستغلقة حصينة لا تذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفًا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم -ولم تكن المدافع معروفة- ولكن روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مِدْفَع بقنابلها، لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يُعرَف الديناميت!

ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت مارية جزعًا شديدًا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قوم جياع ينفضهم الجدب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف؛ وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه؛ وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يُرتبطْنَ على خَسْف؛ وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثَقُلت مطامعهم وخَفَّت أمانتهم؛ وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزَّارًا في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار ولا طبيعته؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!
وتوهمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينزع إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودًا على الدم.
ومن ذلك استُطير قلب مارية وأفزعتها الوساوس، فجعلت تندب نفسها, وصنعت في ذلك شعرًا هذه ترجمته:
جاءك أربعة آلاف جزار أيتها الشاة المسكينة!
ستذوق كل شعرة منك ألم الذبح قبل أن تُذبَحي!
جاءك أربعة آلاف خاطف أيتها العذراء المسكينة!
ستموتين أربعة آلاف مِيتة قبل الموت!
قوني يا إلهي؛ لأغمد في صدري سكينًا يرد عني الجزارين!
يا إلهي، قَوِّ هذه العذراء؛ لتتزوج الموت قبل أن يتزوجها العربي...!
وذهبت تتلو شعرها على أرمانوسة في صوت حزين يتوجع؛ فضحكت هذه وقالت: أنت واهمة يا مارية؛ أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت "أَنْصِنا"1، فكانت عنده في مملكة بعضها السماء, وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيسًا يُعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وأن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعًا ينبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها؛ وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم, يكون حاملًا سلاحًا يضرب صاحبه إذا هم بمخالفته.
وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب المُلك؛ وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة، تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها، فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم؛ وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق!
وقال أبي لها: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعة تعمل في طبيعة؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضرّ الدنيا وترمي ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر... شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لونًا...
فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحوا البلد، ولا يكون ما نستضر به؟

قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه، والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلِبون كالبهائم؛ ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون.
قالت مارية: وأبيك يا أرمانوسة، إن هذا لعجيب! فقد مات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة والحكماء، وما استطاعوا أن يؤدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتب التي كتبوها...! فلم يخرجوا للدنيا جماعة تامة الإنسانية، فضلًا عن أمة كما وصفتِ أنتِ من أمر المسلمين؛ فكيف استطاع نبيهم أن يخرج هذه الأمة وهم يقولون: إنه كان أميا؟ أفتسخر الحقيقة من كبار الفلاسفة والحكماء وأهل السياسة والتدبير؛ فتدعهم يعملون عبثًا أو كالعبث، ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟
قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويُطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العلمية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه.

وظهور الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيه الحقيقة إلى نفسها؛ وبرهانها القاطع أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيب يا مارية، أن هذا النبي قد خذله قومه وناكروه وأجمعوا على خلافه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيح انتهى عند ذلك؛ أما هذا فقد ثبت ثبات الواقع حين يقع؛ لا يرتد ولا يتغير؛ وهاجر من بلده، فكان ذلك أول خُطا الحقيقة التي أعلنت أنها ستمشي في الدنيا، وقد أخذت من يومئذ تمشي1. ولو كانت حقيقة المسيح قد جاءت للدنيا كلها لها جرت به كذلك، فهذا فرق آخر بينهما. والفرق الثالث أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادة القلب، أما هذا الدين فعلمت من أبي أنه ثلاث عبادات يشد بعضها بعضًا: إحداها للأعضاء, والثانية للقلب، والثالثة للنفس؛ فعبادة الأعضاء طهارتها واعتيادها الضبط؛ وعبادة القلب طهارته وحبه الخير؛ وعبادة النفس طهارتها وبذلها في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا؛ فلن تُقهَر أمة عقيدتها أن الموت أوسع الجانبين وأسعدهما.
قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبالية الحياة والموت إلا في أحوال قليلة، تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء؛ كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى؛ فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلتِ منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية, فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسموّ ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة.
قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنكِ تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!

فاستضحكتا معًا وقالت مارية: إنما ألقيتِ كلامًا جاريتُكِ فيه بحسبه، فأنا وأنت كافرتان لا مسلمتان.
قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في "منف"، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار -وهي نحو الشهر- كأنه فكر سكن فكرًا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد.
ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس، أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: "المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء".
وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تُعرّب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخِيذة، تتوجه حيث يُسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأكِ؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يُصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك!
قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرًا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قِبَلي، وسيصحبك الراهب "شطا"، وخذي معك كوكبة من فرساننا.
قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أديتُ إليه رسالتكِ فقال: كيف ظنها بنا؟ قلت: ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. فقال: أبلغيها أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: "استوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم فيكم صهرًا وذمة" وأعلميها أننا لسنا على غارة نُغِيرها، بل على نفوس نُغَيِّرها.
قالت: فصفيه لي يا مارية.
قالت: كان آتيًا في جماعة من فرسانه على خيولهم العِراب، كأنها شياطين تحمل شياطين من جنس آخر؛ فلما صار بحيث أتبينه أومأ إليه الترجمان -وهو "وردان" مولاه- فنظرتُ، فإذا هو على فرس كُمَيْت أَحَمَّ1 لم يخلص للأسود ولا للأحمر، طويل العنق مشرف له ذؤابة أعلى ناصيته كطُرَّة المرأة، ذيَّال يتبختر بفارسه ويُحمحم كأنه يريد أن يتكلم، مُطَهَّم...
فقطعت أرمانوسة عليها وقالت: ما سألتك صفة جوده...
قالت مارية: أما سلاحه...
قالت: ولا سلاحه، صفيه كيف رأيته "هو"؟
قالت: رأيته قصير القامة علامة قوة وصلابة، وافر الهامة علامة عقل وإرادة، أدعج العينين...
فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا؟
... أبلج يُشرق وجهه كأن فيه لألاء الذهب على الضوء، أيِّدًا، اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرًا... داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه, وكلما حاولت أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرر النظر إليه...
وتضرَّجت وجنتاها، فكان ذلك حديثًا بينها وبين عيني أرمانوسة.... وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها...
فغضّت مارية من طرفها وقالت: هو والله ما وصفت، وإني ما ملأت عيني منه، وقد كدت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته.
قالت أرمانوسة: من هيبته أم عينيه الدعجاوين؟
ورجعتْ بنت المقوقس إلى أبيها في صحبة "قيس"، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا: "الله أكبر..." ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب "شطا": ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت ونزاع الوقت وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعة أو بعض ساعة؛ ومحوها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها؛ انظري، ألا تريْنَ هذه الكلمة قد سحرتهم سحرًا فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غير من كانوا، وخشعوا خشوع أعظم الفلاسفة في تأملهم1؟
قالت مارية: ما أجمل هذه الفطرة الفلسفية! لقد تعبت الكتب لتجعل أهل الدنيا يستقرون ساعة في سكينة الله عليهم فما أفلحت، وجاءت الكنيسة فهوَّلت على المصلين بالزخارف والصور والتماثيل والألوان؛ لتوحي إلى نفوسهم ضربًا من الشعور بسكينة الجمال وتقديس المعنى الديني، وهي بذلك تحتال في نقلهم من جوهم إلى جوها، فكانت كساقي الخمر؛ إن لم يعطك الخمر عجز عن إعطائك النشوة, ومن ذا الذي يستطيع أن يحمل معه كنيسة على جواد أو حمار؟
قالت أرمانوسة: نعم, إن الكنيسة كالحديقة؛ وهي حديقة في مكانها، وقلما توحي شيئًا إلا في موضعها؛ فالكنيسة هي الجدران الأربعة، أما هؤلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع.
قال الراهب شطا: ولكن هؤلاء المسلمين متى فُتحت عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها؛ فستكون هذه الصلاة بعينها ليس فيها صلاة يومئذ.
قالت مارية: وهل تفتح عليهم الدنيا, وهل لهم قواد كثيرون كعمرو؟

قال: كيف لا تفتح الدنيا على قوم لا يحاربون الأمم, بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموج في المد المرتفع؛ ليس في داخلها إلا أنفس مندفعة إلى الخارج عنها؛ ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أممًا ليس في الداخل منها إلا النفوس المستعدة أن تهرب إلى الداخل!
قالت مارية: والله لكأننا ثلاثتنا على دين عمرو.
وانفتل قيس من الصلاة, وأقبل يترحَّل، فلما حاذى مارية كان عندها كأنما سافر ورجع؛ وكانت ما تزال في أحلام قلبها؛ وكانت من الحلم في عالم أخذ يتلاشى إلا من عمرو وما يتصل بعمرو. وفي هذه الحياة أحوال "ثلاث" يغيب فيها الكون بحقائقه؛ فيغيب عن السكران، والمخبول، والنائم؛ وفيها حالة رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في إنسان محبوب.
وقالت مارية للراهب شطا: سَلْهُ: ما أَرَبُهم من هذه الحرب، وهل في سياستهم أن يكون القائد الذي يفتح بلدًا حاكمًا على هذا البلد؟
قال قيس: حسبك أن تعلمي أن الرجل المسلم ليس إلا رجلًا عاملًا في تحقيق كلمة الله، أما حظ نفسه فهو في غير هذه الدنيا.
وترجم الراهب كلامه هكذا: أما الفاتح فهو في الأكثر الحاكم المقيم، الحرب فهي عندنا الفكرة وأما المصلحة تريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئًا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفس أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برُعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدي رجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه, ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا لانعكس الأمر.

قالت مارية: فسله: كيف يصنع "عمرو" بهذه القلة التي معه والروم لا يحصى عددهم؛ فإذا أخفق "عمرو" فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟
قال الراوي: ولكن فرس قيس تمطّر وأسرع في لحاق الخيل على المقدمة, كأنه يقول: لسنا في هذا. وفُتحت مصر صلحًا بين عمرو والقبط، وولى الروم مصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح تطوف منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمرو من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوي وشحب لونها وبدأت تنظر النظرة التائهة, وبان عليها أثر الروح الظمأى؛ وحاطها اليأس بجوِّه الذي يحرق الدم؛ وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يتقاتل في نفسها الشعوران العدوان: شعور أنها عاشقة، وشعور أنها يائسة!
ورقت لها أرمانوسة، وكانت هي أيضًا تتعلق فتًى رومانيًّا، فسهرتا ليلة تديران الرأي في رسالة تحملها مارية من قبلها إلى عمرو كي تصل إليه، فإذا وصلت بلَّغت بعينيها رسالة نفسها.
واستقر الأمر أن تكون المسألة عن مارية القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلق بها مما يطول الإخبار به إذا كان السؤال من امرأة عن امرأة. فلما أصبحتا وقع إليها أن عمرًا قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال: "قد تحرمت في جوارنا، أَقِروا الفسطاط حتى تطير فراخها" فأقروه!
ولم يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها، وحفظت عنها أرمانوسة هذا الشعر الذي أسمته نشيد اليمامة:
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
تركها الأمير تصنع الحياة، وذهب هو يصنع الموت!
هي كأسعد امرأة؛ ترى وتلمس أحلامها.
إن سعادة المرأة أولها وآخرها بعض حقائق صغيرة كهذا البيض.
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.

لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي.
هي كأهنأ امرأة، ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر.
هل أكلف الوجود شيئًا إذا كلفته رجلًا واحدًا أحبه!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
الشمس والقمر والنجوم، كلها أصغر في عينها من هذا البيض.
هي كأرق امرأة؛ عرفت الرقة مرتين: في الحب، والولادة.
هل أكلف الوجود شيئًا كثيرًا إذا أردت أن أكون كهذه اليمامة!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يُرى بلونين في عين الأنثى؛
مرة حبيبًا كبيرًا في رَجُلها، ومرة حبيبًا صغيرًا في أولادها.
المجلد الأول المجلد الأول المجلد الثاني المجلد الثالث 24 | 320
كل شيء خاضع لقانونه، والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها.
أيتها اليمامة، لم تعرفي الأمير وترك لكِ فسطاطه!
هكذا الحظ: عدل مضاعف في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى.
احمدي الله أيتها اليمامة، أن ليس عندكم لغات وأديان،
عندكم فقط: الحب والطبيعة والحياة.
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان.
نُسب الهدهد إلى سليمان، وستُنسب اليمامة إلى عمرو.
واهًا لك يا عمرو! ما ضر لو عرفتَ "اليمامة الأخرى"!

إلى لقاء في رحلة أخرى

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك




vpgm lu H]df >





رد مع اقتباس
قديم 08-20-2010   #2


الصورة الرمزية نيروز
نيروز غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 6
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : 07-01-2014 (09:19 AM)
 المشاركات : 13,261 [ + ]
 التقييم :  36
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Female
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Dimgray
افتراضي رد: رحلة مع أديب .



مشكور اخي مطلع الشمس على المجهود الرائع
والملحوظ ونتمنى لك التوفيق على الدوام .
تقبل تحياتي ومروري .


 


رد مع اقتباس
قديم 10-19-2010   #3


الصورة الرمزية شيخ العزاب
شيخ العزاب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 70
 تاريخ التسجيل :  Sep 2010
 أخر زيارة : 09-09-2011 (11:42 AM)
 المشاركات : 578 [ + ]
 التقييم :  10
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: رحلة مع أديب .





 


رد مع اقتباس
قديم 10-27-2010   #4
يآ ح ــلـآت آلدنيآ فيني؛


الصورة الرمزية هموسه
هموسه غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 95
 تاريخ التسجيل :  Oct 2010
 أخر زيارة : 11-06-2011 (03:50 AM)
 المشاركات : 4,118 [ + ]
 التقييم :  87
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Female
 SMS ~
ماخذ على خاطري
والبعد قاهرني
ومتعبني..!!
مدري شسوي..؟
وأنا كـــل شي
ســـويــــته !

لوني المفضل : Black
افتراضي رد: رحلة مع أديب .



يسلممممممممممممممممووووووووووو علي الموضوع


 


رد مع اقتباس
قديم 10-27-2010   #5



الصورة الرمزية مطلع الشمس
مطلع الشمس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : منذ 5 يوم (10:58 AM)
 المشاركات : 6,043 [ + ]
 التقييم :  63
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Darkgreen
افتراضي رد: رحلة مع أديب .



تسلمي هموسة على المرور والتعليق
شكراً جزيلا لك


 


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أحدث مرسدس خلدون أطلال السيارات . 1 02-11-2011 07:43 PM
عملاق ضغط وفك ضغط الملفات المعروف في أحدث اصداراتة WinRAR 4.00 Beta 4 أبو ذكرى البرامج والإنترنت . (Software and Internet) 2 01-26-2011 06:15 AM
أحدث وأشيك الساعات الرجاليه لعام 2011 البراق أطــــلال أناقة وشياكة آدم 4 12-12-2010 06:17 PM
افحص جهازك من أحدث الفيروسات مطلع الشمس أطلال الكمبيوتر . 0 11-01-2010 06:54 PM
الاتصالات تطرح أحدث وأصغر جهاز بلاك بيري أبو نايف أطلال الأندرويد والهواتف الذكية وتطبيقاتها . ( Ruins of smart phones, communication and 6 10-21-2010 01:38 AM

Facebook Comments by: ABDU_GO - شركة الإبداع الرقمية
Add Ur Link
منتديات همس الأطلال دليل مواقع شبكة ومنتديات همس الأطلال مركز تحميل همس الأطلال . إسلاميات
ألعاب همس الأطلال ضع إعلانك هنا . ضع إعلانك هنا . ضع إعلانك هنا .

flagcounter


الساعة الآن 12:03 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
.:: تركيب وتطوير مؤسسة نظام العرب المحدودة ::.
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع الحقوق محفوظة لـشبكة ومنتديات همس الأطلال