يطلق الناس أحياناً تسمية الهلال الخصيب على منطقة هامة للغاية، هي بشكل قوس تمتد شمالاً من دلتا النيل عبر فلسطين وشرق المتوسط، ثم تنعطف شرقاً على طول هضاب الأناضول إلى أن تنتهي على المرتفعات الواقعة بين إيران وبحر قزوين على الطرف الآخر من وديان أنهار بلاد الرافدين. لقد فقد قسم كبير من الهلال الخصيب هذا جاذبيته اليوم، ولكنه منذ عشرة آلاف سنة خلت كان يتمتع بأمطار سخية وتربة خصبة جعلته غنياً بالغابات، وكان غاباته تعج بحيوانات الصيد. ومع انسحاب العصر الجليدي الأخير صار نمو الغابات أقل كثافة منه في الشمال وكان اقتلاعها أسهل.على الهضاب كانت تنمو أجداد نباتات الحبوب اللاحقة، مثل الشعير البري والعلس (القمح البري) وأنواع كثيرة من الأعشاب، ويبدو أن التقنيات الجديدة في الزرع والحصاد قد انتشرت من هذه المنطقة إلى جنوب شرق أوروبا وإلى وادي النيل أيضاً.
ويمكننا أن نرتب تسلسل انتشار الزراعة كما يلي: في حوالي عام 9500 ق.م كان الناس يحصدون الأعشاب والحبوب البرية في آسيا الصغرى، وفي عام 7000 ق.م كانت أولى عمليات الزراعة وتربية النباتات قد بدأت في شرق المتوسط وبلاد الرافدين، ثم انتقلت خلال الآلاف الثلاثة التالية غرباً حتى نهر الراين (تقريباً)، إلى أن بلغت أوروبا الغربية والجزر البريطانية بحلول عام 3000 ق.م، وربما توصلت مناطق أخرى إلى طرق جديدة في زراعة النباتات للغذاء بصورة مستقلة، أما إلى الشرق والشمال من المتوسط فيبدو أن الناس قد تعلموها من جيرانهم.
كان لتعلم تدجين الحيوانات تأثير ثوري يساوي تأثير الزراعة تقريباً، وكانت شعوب الصيادين في أوروبا قد دجنت الكلاب، فكانت تلك خطوة كبيرة أخرى في تسخير طاقة الطبيعة لاستخدام البشر. ثم جاءت الخطوة التالية في جمع الحيوانات البرية والاحتفاظ بها ضمن قطعان، وقتل بعضها من أجل لحمها وجلدها وصوفها أو قرونها وعظامها. كانت الحيوانات تسرح بكثرة في الهلال الخصيب وكانت طيعة لسيطرة الإنسان، وكثر الغنم والماعز خصوصاً أو أجدادها بينما كانت أنواع مختلفة من الخنازير تعيش طليقة في كافة أنحاء العالم تقريباً. وعندما تعلم الناس تربية الحيوانات حية بدلاً من اصطيادها، ترتب على ذلك نتائج كثيرة مثل استخراج الحليب وأخذ البيض من الطيور الداجنة، وفي مرحلة تالية سوف يأتي استخدام الحيوان للركوب والحمل والجر. هناك أربعة حيوانات كان تدجينها أساس استغلال الحيوانات الأليفة ومازال، وهي الماعز والغنم والخنازير والبقر، تنتمي هذه الحيوانات كلها لفصائل ثدييات نصف الكرة الشمالي، وتكمل بعضها بعضاً بصورة مفيدة للإنسان.
فالماعز حيوان شديدة التحمل، يستطيع العيش على القليل من العشب، ويمد الإنسان باللحم والحليب والجلد والصوف، ويعيش الغنم حيثما وجد العشب، وكان العشب وفيراُ على هضاب المنطقة المعتدلة، ويمكن استخدامه بطرق استخدام الماعز نفسها، وتجد أقدم الآثار على تربيته في حوالي عام 9000 ق.م في شمال العراق. أما الخنازير فهي تمد الإنسان باللحم، وتستطيع البحث عن طعامها في الأحراش والغابات، كما أنها تنمو بسرعة وتلد عدداً كبيراً من الصغار وبتكرار عال. وينتج عن البقر اللحم والحليب والجلد، كما يمكن استخدامها لجر الأشياء وحملها، ومن أفضل الأدلة على تدجين الحيوان اكتشاف عظام حيوانات كانت تؤكل في المستوطنات الزراعية الباكرة، وهي في جميع الأحوال بقايا صغارها التي قد تقتل قبل أن تبلغ سن النضج، بينما كانت الحيوانات التي تقتلها شعوب الصيادين كاملة النمو في جميع الحالات تقريباً.
لقد كانت زراعة الحبوب وتربية الحيوانات هي النواة التي تشكلت من حولها النظم الزراعية، ولكن بعض مناطق العالم لم تعرف إلا جزءً من هذا التطور، فعندما صار سكان أمريكا الوسطى يزرعون النباتات لم ينتقلوا إلى مرحلة تدجين الحيوانات، والسبب الأرجح هو أنهم لم تكن لديهم حيوانات كثيرة مناسبة لذلك، إلى أن أدخلها بعد زمن طويل من أتوا بعد كولومبوس. لذلك لم يبرع الإنسان في مهارات رعي الحيوانات إلا في جبال الآندس، حيث كان حيوان اللَّامة يُنتج له كل ما يحتاجه من لحم وحليب وصوف، عدا عن حمل الأثقال. ويدلك هذا على أن الانعزال سرعان ما بدأ يميز الحياة في الأمريكيتين عنها في أصقاع العالم القديم. وحتى ضمن العالم القديم كانت هناك صعوبات في الاتصال، وربما كان هذا هو سبب الاختلافات الكبيرة في طرق تطور الزراعة. فصحيح أن المعرفة والمحاصيل قد انتشرت بسهولة من الشرق الأدنى عبر شمال أفريقيا إلى غرب أوروبا وحتى إلى وادي نهر الدانوب، ولكن يبدو أن انتشارها شرقاً إلى آسيا كان أصعب بكثير، كما أن الفروق المناخية الكبيرة لم تسمح بتطور الأمور على الصورة نفسها. فعندما صارت الصين بلداً زراعياً كانت محاصيلها المناسبة لظروفها المحلية مشتقة من نباتات محلية، ولم تأتها من الخارج مثلما أتت الحبوب إلى أوروبا من الشرق الأدنى. والمثال البارز على ذلك هو نبات الأرز، الذي يتميز بأنه لا يحتاج إلى حيوانات لزراعته بل يحتاج إلى مجهود بشري مكثف، وربما لهذا السبب لم يرب الصينيون إلا حيواناً واحداً من أجل لحمه وهو الخنزير، ولو أنهم استخدموا أنواعاً مختلفة من البقر لاحقاً في أشغالهم، ولكن علماء الآثار مازالوا منقسمين وغير متأكدين من أصول الزراعة في الصين، لذلك يفضل ألا نجزم بالأمر.
منقول .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
hgighg hgowdf hgjsldm ,hgHildm > hgjsgdm