من الواضح أن البشرية كانت قد قطعت درباً طويلاً في أواخر العصر الحجري، ومن أبرز العلامات على ذلك ما نراه في جزء صغير نسبياً من غرب أوروبا، حيث يوجد أبهى دليل نملكه حتى الآن على بدايات الفن. تبدأ تلك الأدلة بمجموعات صغيرة مخزنة من صباغ المَغْرة الأحمر، جمعها نياندرتاليون منذ حوالي خمسين ألف سنة خلت. لقد درست هذه الأصبغة كثيراً ولكننا لا نعلم فيما كانت تستخدم. إن سبب صعوبة الحديث عن أصول الفن هو ندرة الأدلة الباقية على بداياته الأولى، يحق لنا أن نخمن أن البشر الباكرين كانوا يخربشون أشكالاً في الطين، ويلطخون أجسامهم بالألوان، ويشكّون الأزهار أو الريش في شعورهم، أو يرقصون بأنماط معقّدة مثل غيرهم من الشعوب اللاحقة، ولكن هذه الأشياء كلها إن وجدت لم يبق منها أي أثر. والصعوبة الثانية هي أننا لا ندري لماذا تكلف البشر عناء صنع الفن الأول الباقي، وماذا كانوا يعتقدون أنهم يفعلون.
في الأزمنة التاريخية اللاحقة كان الكثير من الناس يلونون وجوههم وأجسادهم لأسباب مختلفة، ربما قام بعضهم بأشياء مثل هذه في الأزمنة القديمة، إما لأسباب دينية أو عملية (التمويه) أو كجزء من ثقافتهم الجنسية، أو لمجرد التسلية والمتعة. ولكننا على الأرجح لن نعلم أبداً ماذا كان الغرض من تلك المغرة الحمراء، فلو تخيلنا أن علماء الآثار بعد آلاف السنين من أيامنا لم يكن لديهم كدليل على بعض مجتمعات القرن العشرين إلا بعض علب من كحل العينين وحمرة الشفاه، لشق عليهم معرفة الغرض منها. إلا أننا منذ حوالي 35.000 ق.م فما بعد نجد في أوروبا زاداً مستمراً من المعلومات، وهي أدلة أنتجت على مدى فترة زمنية طويلة استمرت حتى عام 10.000 ق.م تقريباً، كما أن هناك كهوفاً وصخوراً في أماكن أخرى مثل أفريقيا نجد فيها الكثير من التصوير والحفر من فترة ما قبل التاريخ. ولكننا لم نجد حتى الآن فناً قديماً قدم الفن الباليوليتي في أوروبا، وأغلب ما بقي منه يوجد في منطقة محدودة جداً، هي عدد من المواقع في جنوب غرب فرنسا وشمال إسبانيا. إن أقدم الأشياء التي وجدت هناك هي أغراض صغيرة مزينة وملونة ومصنوعة في أغلب الحالات من العظم والعاج، كقاذفات الرماح المحفورة مثلاً، وكثيراً ما نجد عليها صوراً محفورة لحيوانات. بعد ذلك، في حوالي عام 20.000 ق.م تبدأ مرحلة استغرقت خمسة آلاف سنة، تركت سلسلة باهرة من اللوحات والرسوم المحفورة على جدران الكهوف وأراضيها، وأكثرها تمثل الحيوانات أيضاً. ثم تأتي بعدها المرحلة الأخيرة من الفن الباليوليتي، حيث تسود صور الأيل، وتنتهي بمجموعة وفيرة من الأدوات والأسلحة المزخرفة، والغريب أن هذا التقليد انقرض بعد ذلك على ما يبدو، ولم يظهر فن جميل طوال ستة آلاف عام.
إن بقاء هذا الفن أمر مذهل، ولكنه غامض في الوقت نفسه، لقد جرت محاولات تخمين كثيرة لتفسيره، وأكثر ما اجتذب اهتمام العلماء هو السلاسل العظيمة من رسوم الكهوف، فهي متوضعة في زوايا قاصية من الكهوف يصعب الوصول إليها، ولا يمكن أن تظهر إلا باستخدام ضوء اصطناعي، ومن الواضح أن الكثرة الغالبة للحيوانات هي أمر هام أيضاً، ففنان العصر الباليوليتي لم يكن يمضي وقته في رسم المناظر الطبيعية ولا حتى البشر، واللافت أن البشر يظهرون دوماً بشكل مجرد وغير واقعي، بينما ترسم الحيوانات بعناية دقيقة بالتفاصيل، فربما كان رسم الأشياء بصورة واقعية يعني السيطرة عليها. لقد حاول بعض العلماء البحث عن أنماط ما في تكرار بعض الحيوانات، ولكن من دون جدوى. يحق لنا أن نخمن أن تلك الرسومات كانت تحمل رسائل إلى الذين ينظرون إليها في تلك المجتمعات التي لم تعرف الكتابة، فإذا تذكرنا أيضاً الدلائل القليلة على عادة الدفن في الأزمنة النياندرتالية فإننا نميل للاعتقاد بأن طقوساً دينية أو سحرية كانت تمارس في تلك الكهوف المعتمة، وإذا كان هذا صحيحاً فربما كان مرتبطاً بمحاولة للتأثير في حركات وسلوك الطرائد التي كان البشر الأُول يعتمدون عليها في معيشتهم. ويتوافق هذا التفسير مع تزايد صور الأيل بمرور الزمن، لأن الرنة والماموث الموجودين في الصور الأقدم كانا ينقرضان مع تراجع الجليد البطيء.
إن ما نعرفه عن أول فن عظيم في الحقيقة ضئيل جداً، ولكن ما يوجد منه شيء كافٍ للدلالة على أن البشر في أواخر العصر الباليوليتي كانوا قادرين على القيام بإنجازات عقلية مدهشة، وعلى مراقبة العالم من حولهم بدقة. ربما كانوا يفقدون ثقتهم بقدرتهم على التأثير في سلوك الحيوانات، لأنهم لم يكونوا يعلمون أن سلوكها هذا محكوم بالمناخ، ففقدوا معها الحافز لإنتاج الفن أيضاً. ولا يمكن أن يكونوا قد مارسوا الفن للفن أو بغرض بيعه كما هو الحال في عصور لاحقة، ولكن لاريب في أن ما أنتجوه هو فن بالمعنى الكامل للكلمة، لأنه إبداع خلاق تم بعناية ودقة، يصور أشياء جميلة ومؤثرة وقادرة على اجتذابنا ليس بما يمكن فعله بها فقط، بل بحد ذاتها أيضاً.
منقول .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
H,g hgtk,k td hguwv hgp[v > hgodv hguav