
 
ألم  تكن العشرون عاماً الماضية كافية للفراق ؟ كانت حافلة بالشوق والحنين ، لم  أعد أتذكر آخر مرة رأيتكِ فيها ولم تعد صورتكِ مرسومة في خيالي ولا أعلم  كيف أنتِ الآن ، بعد أن أضعتُ قسمات وجهكِ وملامحه . لأنني رحلتُ عنكِ  وأنتِ صغيرة ، ووجهكِ تعلوه ملامح الطفولة وجمال براءتها ، وروعة الصبا . 
 
 
إنني  أتذكر قسمات وجهكِ الأبيض المدور الجميل ، عندما كنت في عمر الزهور ، وبين  أحضان الطفولة والنقاء . أما الآن فقد مرت عشرون سنة فأخفت وغيرت تلك  الصورة فغاب عني شكلك وهيئتكِ ، وحتى صوتكِ ونبراته . 
 
 
 أختي الصغيرة : 
علمتُ  أنكِ قد تزوجتِ منذ زمن بعيد ، وأنجبتِ البنات والبنين ( حفظهم الله لكِ  وحفظكِ لهم ) ثم رحلتِ إلى بلد بعيد ، لتمر الأيام والسنون وتتابع والبعاد  يلفها ، والشوق إليك يتراكم في أعماقي ، أتمنى أن أسمع صوتكِ أو أراكِ ولو  كان
من بعيد . 
 
 
عندما  وصلت إلى الديار ، وبعد سويعات من وصولي علمتُ بأنكِ ستأتين أنتِ أيضاً ،  فلا تتصوري مدى الفرحة والسعادة التي غمرتني عندما علمتُ بذلك ، لأنني  سألقى ( أختي ) التي توارت عني لعقدين من الزمن ، وأحتظنها وأقبل جبينها  الوضاء ، ذلك الجبين الذي ليس لدي صورة له الآن سوى تلك الصورة الصغيرة  المليئة بضياء الطفولة والبراءة ، والهدوء الوقور . 
 
 
فرحت  عندما علمتُ بأنني سأضم يديكِ الصغيرتين بين كفيَّ وأتلمس فيهما دفء  الأخوة ، وأمحو بدفئهما لهيباً من الاشتياق ظل مضرماً لعشرين سنة كاملة . 
 
 
ولما  وصلتِ إلى الديار زادت الفرحة وتيقنت بأنني سألقاك لا محالة ، وأدخل كل  تلك السنوات إلى إرشيف الزمن السحيق وأرسم في مخيلتي صورتكِ الجديدة ،  لأحلها مكان الصورة الأولى التي لم يعد منها سوى بقايا كورقة مهشمة الآطراف  محترقة ، مثلومة الجوانب كأنما أكلتها دابة الأرض بعد طول السنين . 
 
 
ولا  زلت أنتظر قدومكِ وإطلالتكِ البهية ، ولكن رغم هذا القرب هاهي قد أزفت  ساعة رحيلي أنا أيضاً وعودتي إلى حيث أتيت ، دون أن أراكِ يا أخيتي ،  لتستمر سنوات الضياع وتتمادى في صلفها وجورها ، وتبعدني عنكِ من جديد لزمن  غير محدود ، وفراق متواصل قديم وجديد . 
 
 
لم  أعد أعرف كيف أعيش ، وكيف تسير حياتي ، إنها مليئة بالحب ، والأشواق ،  والحنين ، وخليط من المؤثرات المتتابعة المتلونة ، كخليط من الألوان  الثقيلة القاتمة ، الأسود والأحمر والأبيض ، والرمادي ، والأصفر ،  والبنفسجي ، فتشكلت كتلة من الألوان العجيبة المقيتة ، وأنا بينها أتردد  تلون حياتي باختلافها وطغيان ألوانها . 
 
 
إنني  أتحامل على نفسي تحامل اليائس من الحياة الغارق في ألم الجراح ، فأهدئها  بالمنى وبالأمل ، وأمنيها بأن غداً سيكون يوماً جديداً تعيش فيه بلون واحد  ناصع البياض ، مخضر الجوانب معشب العرصات ، صافي السماء ، حتى لم تعد  تصدقني ، وأصبحت تلك الوعود ضرباً من المستحيل ، وكلما مر يوم دون تحقق  الوعد تعود النفس إلى غياهب الظلام ، وتنكفئ في غيهب الغيب والمجهول ،  وتنثر بهمومها وأحزانها بذرات الشيب على جانب مفرقي ، وتخط بزرعه رأسي ،  وتجعد ناصيتي ، حتى لكأن تلك التجاعيد مدونات من الأحداث المريرة خطتها يد  الزمن ، وطوتها في أعماقي لتكون كتابي الذي أقرأ في صفحاته الحزن ، والألم ،  والأسى . 
 
 
لم يبق سوى أيام قليلة جداً لأرحل دون أن ألقاكِ . ثم تبدأ السنين في العد من جديد 
فإذا  رحلت قبل أن أراكِ فاعلمي يا أخيتي أنني كنت أتحرق شوقاً إليكِ ، حتى أصبح  نبضات قلبي تتوالى بالشوق والحنين ، وإذا كتب ألا نلتقي إلى الأبد فلعلي  سألقاكِ في جنة الخلد بمشيئة الله تعالى ، وإذا علمتِ بأنني قد ووريت في  التراب فاعلمي أنه كان بين جوانحي قلباً ينبض بحبكِ والشوق إليكِ ، ونفس  كانت مترعة بالأماني وآمال لقائكِ . 
 
 
عيشي بسلام أخيتي .. ولتهنأ لكِ الحياة ، ويطول عمركِ في طاعة المولى عز وجل . 
 
 
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
fu] ur]dk lk hg.lk >>> Ygn Hojd hgwydvm >